سورة الأعراف - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} فيه محذوف، أي بوأكم في الأرض منازل. {تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً} أي تبنون القصور بكل موضع. {وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً} اتخذوا البيوت في الجبال لطول أعمارهم، فإن السقوف والأبنية كانت تبلى قبل فناء أعمارهم. وقرأ الحسن بفتح الحاء، وهي لغة. وفية حرف من حروف الحلق فلذلك جاء على فعل يفعل.
الثانية: استدل بهذه الآية من أجاز البناء الرفيع كالقصور ونحوها، وبقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ}. ذكر أن ابنا لمحمد بن سيرين بنى دارا وأنفق فيها مالا كثيرا فذكر ذلك لمحمد بن سيرين فقال: ما أرى بأسا أن يبني الرجل بناء ينفعه. وروي أنه عليه السلام قال: «إذا أنعم الله على عبد أحب أن يرى أثر النعمة عليه». ومن آثار النعمة البناء الحسن، والثياب الحسنة. ألا ترى أنه إذا اشترى جارية جميلة بمال عظيم فإنه يجوز وقد يكفيه دون ذلك، فكذلك البناء. وكره ذلك آخرون، منهم الحسن البصري وغيره. واحتجوا بقوله عليه السلام: «إذا أراد الله بعبد شرا أهلك ماله في الطين واللبن».
وفي خبر آخر عنه أنه عليه السلام قال: «من بنى فوق ما يكفيه جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه». قلت: بهذا أقول، لقول عليه السلام: «وما أنفق المؤمن من نفقة فإن خلفها على الله عز وجل إلا ما كان في بنيان أو معصية». رواه جابر بن عبد الله وخرجه الدارقطني.
وقوله عليه السلام: «ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء» أخرجه الترمذي.
الثالثة: قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ} أي نعمه. وهذا يدل على أن الكفار منعم عليهم. وقد مضى في آل عمران القول فيه. {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} تقدم في البقرة. والعثى والعثو لغتان. وقرأ الأعمش {تعثوا} بكسر التاء أخذه من عثى يعثى لا من عثا يعثو.


{قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76)}
قوله تعالى: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} الثاني بدل من الأول، لأن المستضعفين هم المؤمنون. وهو بدل البعض من الكل.


{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}
قوله تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} العقر الجرح.
وقيل: قطع عضو يؤثر في النفس. وعقرت الفرس: إذا ضربت قوائمه بالسيف. وخيل عقرى. وعقرت ظهر الدابة: إذا أدبرته.
قال امرؤ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا *** عقرت بعيري يا امرأ القيس فأنزل
أي جرحته وأدبرته قال القشيري: العقر كشف عرقوب البعير، ثم قيل للنحر عقر، لأن العقر سبب النحر في الغالب. وقد اختلف في عاقر الناقة على أقوال. أصحها ما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن زمعة قال، خطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر الناقة وذكر الذي عقرها فقال: «{إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها} انبعث لها رجل عزيز عارم منيع في رهطه مثل أبي زمعة» وذكر الحديث. وقيل في اسمه: قدار بن سالف.
وقيل: إن ملكهم كان إلى امرأة يقال لها ملكي، فحسدت صالحا لما مال إليه الناس، وقالت لامرأتين كان لهما خليلان يعشقانهما: لا تطيعاهما واسألاهما عقر الناقة، ففعلتا. وخرج الرجلان وألجآ الناقة إلى مضيق ورماها أحدهما بسهم وقتلاها. وجاء السقب وهو ولدها إلى الصخرة التي خرجت الناقة منها فرغا ثلاثا وانفجرت الصخرة فدخل فيها. ويقال: إنه الدابة التي تخرج في آخر الزمان على الناس، على ما يأتي بيانه في النمل.
وقال ابن إسحاق: أتبع السقب أربعة نفر ممن كان عقر الناقة، مصدع وأخوه ذؤاب. فرماه مصدع بسهم فانتظم قلبه، ثم جره برجله فألحقه بأمه، وأكلوه معها. والأول أصح، فإن صالحا قال لهم: إنه بقي من عمركم ثلاثة أيام، ولهذا رغا ثلاثا.
وقيل: عقرها عاقرها ومعه ثمانية رجال، وهم الذين قال الله فيهم: {وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ} على ما يأتي بيانه في {النمل}. وهو معنى قوله: {فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ}. وكانوا يشربون فأعوزهم الماء ليمزجوا شرابهم، وكان يوم لبن الناقة، فقام أحدهم وترصد الناس وقال: لأريحن الناس منها، فعقرها. قوله تعالى: {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي استكبروا. عتا يعتو عتوا أي استكبر. وتعتى فلان إذا لم يطع. والليل العاتي: الشديد الظلمة، عن الخليل.
{وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا} أي من العذاب. {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} أي الزلزلة الشديدة.
وقيل: كان صيحة شديدة خلعت قلوبهم، كما في قصة ثود في سورة هود في قصة ثمود فأخذتهم الصيحة. يقال: رجف الشيء يرجف رجفا رجفانا. وأرجفت الريح الشجر حركته. وأصله حركة مع صوت، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} قال الشاعر:
ولما رأيت الحج قد آن وقته *** وظلت مطايا القوم بالقوم ترجف
{فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ} أي بلدهم.
وقيل: وحد على طريق الجنس، والمعنى: في دورهم.
وقال في موضع آخر: {فِي دِيارِهِمْ} إي في منازلهم. {جاثِمِينَ} أي لاصقين بالأرض على ركبهم ووجوههم، كما يجثم الطائر. أي صاروا خامدين من شدة العذاب. واصل الجثوم للأرنب وشبهها، والموضع مجثم. قال زهير:
بها العين والآرام يمشين خلفة *** وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم
وقيل: احترقوا بالصاعقة فأصبحوا ميتين، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله، فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه. {فَتَوَلَّى عَنْهُمْ} أي عند اليأس منهم. {وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ} يحتمل أنه قال ذلك قبل موتهم. ويحتمل أنه قال بعد موتهم، كقوله عليه السلام لقتلى بدر: {هل وجدتم ما وعد ربكم حقا} فقيل: أتكلم هؤلاء الجيف؟ فقال: {ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب}. والأول أظهر. يدل عليه {وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} أي لم تقبلوا نصحي.

14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21